فصل: بخت نصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **


  بخت نصر

فلما ذكروا لكل شخص مدة صحيحة سالمة من الكسر نقصت جملة السنين القدر المذكور - أعني ستاً وعشرين سنة وكسوراً - وحيث انتهينا إلى ولاية بخت نصر فنؤرخ منه ما بعده - إن شاء الله تعالى - وكان ابتداء ولاية بخت نصر في سنة تسع وسبعين وتسعمائة لوفاة موسى عليه السلام‏.‏

وفي السنة الأولى من ولاية بخت نصر سار إلى نينوى - وهي مدينة قبالة الموصل بينهما دجلة - ففتحها وقتل أهلها وخربها‏.‏

وفي السنة الرابعة من ملكه - وهي السابعة من ملك يهوياقيم - سار بخت نصر بالجيوش إلى الشام وغزا بني إسرائيل فلم يحاربه‏.‏

يهوياقيم ودخل تحت طاعته فبقاه بخت نصر على ملكه وبقي يهوياقيم تحت طاعة بخت نصر ثلاث سنين ثم خرج عن طاعته وعصى عليه فأرسل بخت نصر وأمسك يهوياقيم وأمر بإحضاره إليه فمات يهوياقيم في الطريق من الخوف فتكون مدة يهوياقيم نحو إحدى عشرة سنة ويكون انقضاء ملك يهوياقيم في أوائل سنة ثمان لابتداء ملك بخت نصر - يهوياقيم بفتح المثناة من تحتها وضم الهاء وواو ساكنة وياء مثناة من تحتها وألف وقاف مكسورة وياء مثناة من تحتها ساكنة وميم‏.‏

لما أخذ يهوياقيم المذكور إلى العراق استخلف مكانه ابنه - وهو يخنيو - فأقام يخنيو موضع أبيه مائة يوم ثم أرسل بخت نصر من أخذه إلى بابل - يخنيو بفتح المثناة من تحتها وفتح الخاء ولما أخذ بخت نصر يخنيو إلى العراق أخذ معه أيضاً جماعة من علماء بني إسرائيل من جملتهم دانيال وحزقال النبي وهو من نسل هارون وحال وصول يخنيو سجنه بخت نصر ولم يبرح مسجوناً حتى مات بخت نصر ولما أمسك بخت نصر يخنيو نصب مكانه على بني إسرائيل عم يخنيو المذكور وهو صدقيا‏.‏

صدقيا واستمر صدقيا تحت طاعة بخت نصر وكان إرميا النبي في أيام صدقيا فبقي يعظ صدقيا وبني إسرائيل ويهددهم ببخت نصر وهم لا يلتفتون‏.‏

وفي السنة التاسعة من ملك صدقيا عصى على بخت نصر فسار بخت نصر بالجيوش ونزل على بارين ورفنية وبعث الجيوش مع وزيره واسمه نبو زرذون - بفتح النون وضم الباء الموحدة وسكون الواو وفتح الزاي والراء المهملة وسكون الألف وضم الذال المعجمة وسكون الواو وفي آخرها نون - إلى حصار صدقيا بالقدس فسار الوزير الكذكور بالجيش وحاصر صدقيا مدة سنتين ونصف أولها عاشر تموز من السنة التاسعة لملك صدقيا وأخذ بعد حصاره المدة المذكورة القدس بالسيف وأخذ صدقيا أسيراً وأخذ معه جملة كثيرة من بني وأحرق القدس وهدم البيت الذي بناه سليمان وأحرقه وأباد بني إسرائيل قتلا وتشريداً‏.‏

فكان مدة ملك صدقيا نحو إحدى عشرة سنة وهو آخر ملوك بني إسرائيل‏.‏

وأما من تولى بعده من بني إسرائيل بعد إعادة عمارة بيت المقدس - على ما سنذكره - فإنما كان له الرئاسة بيت المقدس فحسب لا غير ذلك فيكون انقضاء ملوك بني إسرائيل وخراب بيت المقدس على يد بخت نصر سنة عشرين من ولاية بخت نصر تقريباً وهي السنة التاسعة والتسعون وتسعمائة لوفاة موسى عليه السلام وهي أيضاً سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة مضت من عمارة بيت المقدس وهي مدة لبثه على العمارة واستمر بيت المقدس خراباً سبعين سنة ثم عمر على ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وإلى هنا انتهى نقلنا عن كتب اليهود المعروفة بالأربعة والعشرين المتواترة عندهم وقربنا في ضبط هذه الأسماء غاية ما أمكننا فإن فيها أحرفاً ليست من حروف العربية وفيها إمالات ومدات لا يمكن أن تعلم بغير مشافهة لكن ما ذكرناه من الضبط هو أقرب ما يمكن فليعلم ذلك‏.‏

ومن تجارب الأمم لابن مسكويه قال‏:‏ إن بخت نصر لما غزا القدس وخربه وأباد بني إسرائيل هرب من بني إسرائيل جماعة قاموا بمصر عند فرعون فأرسل بخت نصر إلى فرعون مصر يطلبهم منه وقال‏:‏ هؤلاء عبيدي وقد هربوا إليك فلم يسلمهم فرعون مصر وقال‏:‏ ليس هم بعبيدك وإنما هم أحرار وكان هذا هو السبب لقصد بخت نصر غزو مصر وهرب منهم جماعة إلى الحجاز وأقاموا مع العرب‏.‏

من كتاب أبي عيسى‏:‏ إن بخت نصر لما فرغ من خراب القدس وبني إسرائيل قصد مدينة صور فحاصرها مدة وإن أهل صور جعلوا جميع أموالهم في السفن وأرسلوها في البحر فسلط الله تعالى على تلك السفن ريحاً فغرقت أموالهم عن آخرها‏.‏

وجد بخت نصر في حصارها وحصل لعسكره منهم جراحات كثيرة وقتل وما زال على ذلك حتى ملكها بالسيف وقتل صاحب صور لكنه لم يجد فيها من المكاسب ماله صورة‏.‏

ثم سار بخت نصر إلى مصر والتقى هو وفرعون الأعرج فانتصر بخت نصر عليه ومتله وصلبه وحاز أموال مصر وذخائرها وسبا من كان بمصر من القبط وغيرهم فصارت مصر بعد ذلك خراباً أربعين سنة ثم غزا بلاد المغرب وعاد إلى بلاده ببابل وسنذكر أخبار بخت نصر ووفاته‏.‏

مع ملوك الفرس - إن شاء الله تعالى‏.‏

وأما بيت المقدس فإنه عمر بعد لبثه على التخريب سبعين سنة وعمره بعض ملوك الفرس - واسمه عند اليهود كيرش - وقد اختلف في كيرش المذكور‏:‏ من هو‏.‏

فقيل‏:‏ دارا بن بهمن وقيل‏:‏ بل هو بهمن المذكور وهو الأصح ويشهد لصحة ذلك كتاب إشعيا على ما سنذكر ذلك عند ذكر أزدشير بهمن المذكور مع ملوك الفرس إن شاء الله تعالى‏.‏

ولما عادت عمارة بيت المقدس تراجعت إليه بنو إسرائيل من العراق وغيره وكانت عمارته في أول سنة سبعين لابتداء ولاية بخت نصر‏.‏

ولما تراجعت بنو إسرائيل إلى القدس كان من جملتهم عزير وكان بالعراق وقدم معه من بني إسرائيل ما يزيد على ألفين من العلماء وغيرهم وترتب مع عزير في القدس مائة وعشرون شيخاً من علماء بني إسرائيل‏.‏

وكانت التوراة قد عدمت منهم إذ ذاك فمثلها الله تعالى في صدر العزير ووضعها لبني إسرائيل يعرفونها بحلالها وحرامها فأحبوه حباً شديداً وأصلح العزير أمرهم وأقام بينهم على ذلك‏.‏

من كتب اليهود‏:‏ إن العزير لبث مع بني إسرائيل في القدس يدبر أمرهم حتى توفي بعد مضي أربعين سنة لعمارة بيت المقدس‏.‏

أقول‏:‏ فيكون وفاة العزير سنة ثلاثين ومائة لابتداء ولاية بخت نصر واسم العزير بالعبرانية عزرا وهو من ولد فتحاس بن العزر بن هارون بن عمران‏.‏

ومن كتب اليهود‏:‏ إن الذي تولى رئاسة بني إسرائيل ببيت المقدس بعد العزير شمعون الصديق وهو أيضاً من نسل هارون‏.‏

من كتاب أبي عيسى إن بني إسرائيل لما تراجعوا إلى القدر بعد عمارته‏.‏

صار لهم حكام منهم وكانوا تحت حكم ملوك الفرس واستمروا كذلك حتى ظهر الإسكندر في سنة أربع مائة وخمس وثلاثين لولاية بخت نصر‏.‏

وغلبت اليونان على الفرس ودخلت حينئذ بنو إسرائيل تحت حكم اليونان وأمام اليونان من بني إسرائيل ولاة عليهم وكان يقال للمتولي عليهم هرذوس وقيل هيروذس واستمر بنو إسرائيل على ذلك حتى خرب بيت المقدس الخراب الثاني وتشتت منه بنو إسرائيل على ما سنذكره إن شاء الله تعالى ولنرجع إلى ذكر من كان من الأنبياء في أيام بني إسرائيل‏.‏

  ذكر يونس بن متى عليه السلام

ومتى أم يونس عليه السلام ولم يشتهر نبي بأمه غير عيسى ويونس عليهما السلام‏.‏

كذا ذكره ابن الأثير في الكامل في ترجمة يونس المذكور وقد قيل إنه من بني إسرائيل وإنه من سبط بنيامين وقيل إن يونس المذكور كانت بعثته بعد يوثم ابن عزياهو أحد ملوك بني إسرائيل المقدم الذكر وكانت وفاة يوثم في سنة خمس عشرة وثمانمائة لوفاة موسى عليه السلام‏.‏

وبعث الله تعالى يونس المذكور في تلك المدة إلى أهل نينوى وهي قبالة الموصل بينهما دجلة - وكانوا يعبدون الأصنام فنهاهم وأوعدهم العذاب في يوم معلوم إن لم يتوبوا وضمن ذلك عن ربه عز وجل‏.‏

فلما أظلهم العذاب آمنوا فكشفه الله عنهم وجاء يونس لذلك اليوم ولم ير العذاب حل ولا علم بإيمانهم فذهب مغاضباً‏.‏

قال ابن سعيد المغربي‏:‏ ودخل في سفينة من سفن دجلة فوقفت السفينة ولم تتحرك فقال رئيسها‏:‏ فيكم من له ذنب وتساهموا على من يلقونه في البحر ووقعت المساهمة على يونس فرموه فالتقمه الحوت وسار به إلى الأبلة وكان من شأنه ذكر إرميا عليه السلام قد تقدم عند ذكر صدقيا أن إرميا كان في أيامه وبقي إرميا يأمر بني إسرائيل بالتوبة ويتهددهم ببخت نصر وهم لا يلتفتون إليه‏.‏

فلما رأى أنهم لا يرجعون عما هم فيه فارقهم إرميا واختفى حتى غزاهم بخت نصر وخرب القدس حسبما تقدم ذكره‏.‏

من تاريخ ابن سعيد المغربي‏:‏ إن الله تعالى أوحى إلى إرميا إني عامر بيت المقدس فاخرج إليها فخرج إرميا وقدم إلى القدس وهي خراب فقال في نفسه‏:‏ سبحان الله أمرني الله أن أنزل هذه البلدة وأخبرني أنه عامرها فمتى يعمره ومتى يحييها الله بعد موتها ثم وضع رأسة فنام ومعه حماره وسلة فيها طعام‏.‏

وكان من قصته ما أخبر الله تعالى به في محكم كتابه العزيز في قوله تعالى ‏(‏أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها‏ قال أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال‏:‏ أعلم أن الله على كل شيء قدير‏)‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 259‏)‏ وقد قيل إن صاحب القصة هو العزير والأصح أنه إرميا‏.‏

ذكر نفل التوراة وغيرها من كتب الأنبياء من اللغة العبرانية إلى اللغة اليونانية من كتاب أبي عيسى قال‏:‏ لما ملك الإسكندر وقهر الفرس وعظمت مملكة اليونان صار بنو إسرائيل وغيرهم تحت طاعتهم‏.‏

وتوالت ملوك اليونان بعد الإسكندر وكان يقال لكل واحد منهم بطلميوس - على ما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى في الفصل الثالث ولكن نذكر منهم هاهنا ما تدعو الحاجة إلى ذكره فنقول‏:‏ لما مات الإسكندر ملك بعده بطليموس بن لاغوس عشرين سنة ثم ملك بعده بطليموس محب أخيه وهو الذي نقلت إليه التوراة وغيرها من كتب الأنبياء من اللغة العبرانية إلى اللغة اليونانية‏.‏

أقول‏:‏ فيكون نقل التوراة بعد عشرين سنة مضت لموت الإسكندر‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ إن بطلميوس الثاني محب أخيه المذكور لما تولى وجد جملة من الأسرى منهم نحو ثلاثين ألف نفس من اليهود فأعتقهم كلهم وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم ففرح بنو إسرائيل بذلك وأكثروا له من الدعاء والشكر وأرسل رسولا وهدايا إلى بني إسرائيل المقيمين بالقدس وطلب منهم أن يرسلوا إليه عدة من علماء بني إسرائيل لنقل التوراة وغيرها إلى اللغة اليونانية فسارعوا إلى امتثال أمره‏.‏

ثم إن بني إسرائيل تزاحموا على الرواح إليه وبقي كل منهم يختار ذلك واختلفوا ثم اتفقوا‏.‏

على أن يبعثوا إليه من كل سبط من أسباطهم ستة نفر فبلغ عددهم اثنين وسبعين رجلا‏.‏

فلما وصلوا إلى بطلميوس المذكور أحسن قراهم وصيرهم ستاً وثلاثين فرقة وخالف بين أسباطهم وأمرهم فترجموا له ستاً وثلاثين نسخة بالتوراة وقابل بطلميوس بعضها ببعض فوجدها مستوية لم تختلف اختلافاً يعتد به وفرق بطلميوس النسخ المذكورة في بلاده وبعد فراغهم من الترجمة أكثر لهم الصلات جهزهم إلى بلدهم‏.‏

وسأله المذكورون في نسخة من تلك النسخ فأسعفهم بنسخة فأخذها المذكورون وعادوا بها إلى بني إسرائيل ببيت المقدس‏.‏

فنسخة التوراة المنقولة لبطلميوس حينئذ أصح نسخ التوراة وأثبتهما وقد تقدمت الإشارة إلى هذه النسخة وإلى النسخة التي بيد اليهود الآن وإلى نسخة السامرية في مقدمة هذا الكتاب ذكر زكريا وابنه يحيى عليهما السلام من كتاب ابن سعيد المغربي‏:‏ زكريا من ولد سليمان بن داود عليهما السلام وكان نبياً ذكره الله تعالى في كتابه العزيز قال‏:‏ وكان نجاراً وهو الذي كفل مريم أم عيسى وكانت مريم بنت

عمران بن ماتان من ولد سليمان بن داود وكانت أم مريم اسمها حنة وكان زكريا متزوجاً أخت حنة‏.‏

واسمها إيساع فكانت زوج زكريا خالة مريم ولذلك كفل زكريا مريم‏.‏

فلما كبرت مريم بنى لها زكريا غرفة في المسجد فانقطعت مريم في تلك الغرفة للعبادة‏.‏

وكان لا يدخل على مريم غير زكريا فقط‏.‏

وأرسل الله تعالى جيريل فبشر زكريا بيحيى مصدقاً بكلمة من الله تعني عيسى بن مريم ثم أرسل الله تعالى جبريل و نفخ في جيب مريم فحبلت بعيسى وكانت قد حبلت خالتها إيساع بيحيى وولد يحيى قبل المسيح بستة أشهر ثم ولدت مريم عيسى‏.‏

فلما علمت اليهود أن مريم ولدت من غير بعل اتهموا زكريا بها وطلبوه فهرب واختفى في شجرة عظيمة فقطعوا الشجرة وقطعوا زكريا معها وكان عمر زكريا حينئذ نحو مائة سنة وكأن قتله بعد ولادة المسيح وكانت ولادة المسيح لمضي ثلاثمائة وثلاث سنين للإسكندر فيكون مقتل زكريا بعد ذلك بقليل‏.‏

وأما يحيى ابنه فإنه نبئ صغيراً ودعا الناس إلى عبادة الله ولبس يحيى الشعر واجتهد في العبادة حتى نحل جسمه وكان عيسى بن مريم قد حرم نكاح بنت الأخ وكان لهرذوس وهو الحاكم على بني إسرائيل بنت أخ وأراد أن يتزوجها حسبما هو جائز في دين اليهود فنهاه يحيى عن ذلك فطلبت أم البنت من هرذوس أن يقتل يحيى فلم يجبها إلى ذلك فعاودته وسألته البنت أيضاً وألحتا عليه فأجابهما إلى ذلك وأمر بيحيى فذبح لديهما‏.‏

وكان قتل يحيى قبل رفع المسيح بمدة يسيرة لأن عيسى عليه السلام إنما ابتدأ بالدعوة لما صار له ثلاثون سنة ولما أمره الله أن يدعو الناس إلى دين النصارى غمسه يحيى في نهر الأردن ولعيسى نحو ثلاثين سنة‏.‏

وخرج من نهر الأردن وابتدأ بالدعوة‏.‏

وجميع ما لبث المسيح بعد ذلك ثلاث سنين فذبح يحيى كان بعد مضي ثلاثين سنة من عمر عيسى وقبل رفعه وكان رفع عيسى بعد نبوته بثلاث سنين والنصارى تسمي يحيى المذكور يوحنا المعمدان لكونه عمد المسيح حسبما ذكر‏.‏

عليه السلام أما مريم فاسم أمها حنة زوج عمران وكانت حنة لا تلد واشتهت الولد فدعت بذلك ونذرت إن رزقها الله ولداً جعلته من سدنة بيت المقدس فحبلت حنة وهلك زوجها عمران وهي حامل فولدت بنتا وسمتها مريم ومعناه‏:‏ العابدة‏.‏

ثم حملتها وأتت بها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وقالت‏:‏ دونكم هذه المنذورة فتنافسوا فيها لأنها بنت عمران - وكان من أئمتهم - فقال زكريا‏:‏ أنا أحق بها لأن خالتها زوجتي‏.‏

فأخذها زكريا وضمها إلى إيساع خالتها فلما كبرت مريم أفرد لها زكريا غرفة حسبما تقدم ذكره وأرسل الله جبريل فنفخ في مريم فحبلت بعيسى وولدته في بيت لحم وهي قرية قريبة من القدس سنة أربع وثلاثمائة لغلبة الإسكندر‏.‏

ولما جاءت مريم بعيسى تحمله قال لها قومها‏:‏ ‏(‏لقد جئت شيئاً فرياً‏)‏ ‏(‏مريم 117‏)‏ وأخذوا الحجارة ليرجموها فتكلم عيسى وهو في المهد معلقاً في منكبها - فقال ‏(‏إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت‏)‏ ‏(‏مريم‏:‏ 30 - 31‏)‏ فلما سمعوا كلام ابنها تركوها‏.‏

ثم إن مريم أخذت عيسى وسارت به إلى مصر وسار معه ابن عمها يوسف ابن يعقوب بن ماتان النجار‏.‏

وكان يوسف المذكور نجاراً حكيماً ويزعم بعضهم أن يوسف المذكور كان قد تزوج مريم لكنه لم يقربها وهو أول من أنكر حملها ثم علم وتحقق براءتها وسار معها إلى مصر وأقاما هناك اثنتي عشرة سنة ثم عاد عيسى وأمه إلى الشام ونزلا الناصرة وبها سميت النصارى - وأقام بها عيسى حتى بلغ ثلاثين سنة فأوحى الله تعالى إليه وأرسله إلى الناس‏.‏

من كتاب أبي عيسى ولما صار لعيسى ثلاثون سنة صار إلى الأردن وهو نهر الغور المسمى بالشريعة فاعتمد وابتدأ بالدعوة وكان يحيى بن زكريا هو الذي عمده وكان ذلك لستة أيام خلت من كانون الثاني لمضي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة للإسكندر‏.‏

  وأظهر عيسى عليه السلام المعجزات

وأحيا ميتاً يقال له عازر بعد ثلاثة أيام من موته وجعل من الطين طائراً قيل هو الخفاش وأبرأ الأكمه والأبرص وكان يمشي على الماء‏.‏

وأنزل الله تعالى عليه المائدة وأوحى إليه الإنجيل‏.‏

من كتاب أبي عيسى المغربي وكان عيسى عليه السلام يلبس الصوف والشعر ويأكل من نبات الأرض وربما تقوت من غزل أمه‏.‏

وكان الحواريون الذين اتبعوه اثني عشر رجلاً وهم شمعون الصفا وشمعون القنابي ويعقوب بن زندي ويعقوب بن حلقي وقولوس ومارقوس وأندرواس وتمريلا ويوحنا ولوقا وتوما ومتى وهؤلاء الذين سألوه نزول المائدة فسأل عيسى ربه عز وجل فأنزل عليه سفرة حمراء مغطاة بمنديل فيها سمكة مشوية وحولها البقول ما خلا الكراث وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل ومعها خمسة أرغفة على بعضها زيتون وعلى باقيها رمان وتمر فأكل منها خلق كثير ولم تنقص ولم يأكل منها ذو عاهة إلا برئ وكانت تنزل يوماً وتغيب يوماً أربعين ليلة‏.‏

قال ابن سعيد‏:‏ ولما أعلم الله المسيح أنه خارج من الدنيا جزع من ذلك فدعا الحواريين وصنع لهم طعاماً وقال أحضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة فلما اجتمعوا بالليل عشاهم وقام يخدمهم فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويمسحها بثيابه فتعاظموا ذلك فقال‏:‏ من رد علي شيئاً مما أصنع فليس مني فتركوه حتى فرغ فقال لهم‏:‏ إنما فعلت هذا ليكون لكم أسوة بي في خدمة بعضكم بعضاً وأما حاجتي إليكم فأن تجتهدوا لي في الدعاء إلى الله أن يؤخر أجلي‏.‏

فلما أرادوا ذلك ألقى الله عليهم النوم حتى لم يستطيعوا الدعاء وجعل المسيح يوقظهم و يؤنبهم فلا يزدادون إلا نوماً وتكاسلاً وأعلموه أنهم مغلوبون عن ذلك فقال المسيح‏:‏ سبحان الله يذهب بالراعي ويتفرق الغنم ثم قال لهم‏:‏ الحق أقول لكم‏:‏ ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة ويأكلن ثمني‏.‏

وكانت اليهود قد جدت في طلبه فحضر أحد الحواريين إلى هرذوس الحاكم على اليهود وإلى جماعة من اليهود وقال‏:‏ ما تجعلون لي إذا دللتكم على المسيح فجعلوا له ثلاثين درهماً فأخذها ودلهم عليه فرفع الله تعالى المسيح إليه وألقى شبهه على الذي دلهم عليه‏.‏

قال ابن الأثير في الكامل‏:‏ وقد اختلفت العلماء في موته قبل رفعه فقيل‏:‏ رفع ولم يمت وقيل بل توفاه الله ثلاث ساعات وقيل‏:‏ سبع ساعات ثم أحياه وتأول قائل هذا قوله تعالى‏:‏ ‏(‏إني متوفيك‏)‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 55 ‏)‏‏.‏

ولما أمسك اليهود الشخص المشبه به ربطوه وجعلوا يقودونه بحبل ويقولون له‏:‏ أنت كنت تحيي الموتى أفلا تخلص نفسك من هذا الحبل ويبصقون في وجهه ويلقون عليه الشوك وصلبوه على الخشب فمكث على الخشب ست ساعات ثم استوهبه يوسف النجار من الحاكم الذي كان على اليهود وكان اسمه فيلاطوس ولقبه هرذوس ودفنه في قبر كان يوسف المذكور قد أعده لنفسه ثم أنزل الله المسيح من السماء إلى أمه مريم وهي تبكي عليه فقال لها‏:‏ إن الله رفعني إليه ولم يصبني إلا الخير وأمرها فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض رسلاً عن الله وأمرهم أن يبلغوا عنه ما أمر الله به ثم رفعه الله إليه وتفرق الحواريون حيث أمرهم وكان رفع المسيح لمضي ثلاثمائة وست وثلاثين سنة من غلبة الإسكندر على دارا‏.‏

قال الشهرستاني‏:‏ ثم إن أربعة من الحواريين وهم‏:‏ متى ولوقا ومرقس ويوحنا اجتمعوا وجمع كل واحد منهم إنجيلاً وخاتمة إنجيل متى أن المسيح قال‏:‏ إني أرسلتكم إلى الأمم كما أرسلني أبي إليكم فاذهبوا وادعوا الأمم باسم الأب والابن روح القدس‏.‏

وكان بين رفع المسيح ومولد النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة وخمس وأربعون سنة تقريباً وكانت ولادة المسيح أيضاً لمضي ثلاث وثلاثين سنة من أول ملك أغسطس ولمضي إحدى وعشرين سنة من غلبته على قلوبطرا لان أغسطس لمضي اثنتي عشرة سنة من ملكه سار من رومية وملك ديار مصر وقتل قلوبطرا ملكة اليونان‏.‏

وبعد إحدى وعشرين سنة من غلبته على قلوبطرا ولد المسيح عليه السلام وقيل غير ذلك ولكن هذا هو الأقوى وكانت مدة ملك أغسطس ثلاثاً وأربعين سنه‏.‏

وعاش المسيح إلى أن رفع ثلاثاً وثلاثين سنة فيكون رفع المسيح بعد موت أغسطس بثلاث وعشرين سنة فيكون رفع المسيح في أواخر السنة الأولى من ملك غانيوس‏.‏

وأما أمة عيسى فهم النصارى وسيذكرون مع باقي الأمم في الفصل الخامس إن شاء الله تعالى‏.‏

وأما مريم أم عيسى فإنها عاشت نحو ثلاث وخمسين سنة لأنها حملت بالمسيح لما صار لها ثلاث عشرة سنة وعاشت معه مجتمعة ثلاثاً وثلاثين سنة كسراً وبقيت بعد رفعه ست سنين‏.‏

  الخراب الثاني وهلاك اليهود

وزوال دولتهم زوالاً لا رجوع بعده قد تقدم ذكر عمارة سليمان بن داود لبيت المقدس وأن سليمان عمره وفرغ منه في سنة ست وأربعين وخمسمائة لوفاة موسى عليه السلام ثم ذكر ناغز وبخت نصر القدس مرة بعد أخرى حتى خربه وشتت بني إسرائيل في البلاد وأن ذلك كان لمضي تسع عشرة سنة من ابتداء ملك بخت نصر وهو لمضي سنة تسعمائة وسبع وتسعين لوفاة موسى عليه السلام وأن بيت المقدس استمر خراباً سبعين سنة ثم عمر فيكون ابتداء عمارته الثانية لمضي ألف وسبع وستين سنة أعني في سنة ثمان وستين بعد الألف لوفاة موسى ولمضي تسع وثمانين سنة من ابتداء ملك بخت نصر فتكون عمارته في سنة تسعين من ملك المذكور والذي عمره هو ملك الفرس أزدشير بهمن واسم أزدشير بهمن المذكور عند بني إسرائيل كيرش وقيل‏:‏ كورش وقيل‏:‏ إن كيرش ملك آخر غير أردشير بهمن‏.‏

ثم تراجعت إليه بنو إسرائيل وصاروا تحت حكم الفرس ثم لما غلبت اليونان‏.‏

على الفرس صارت بنو إسرائيل تحت حكمهم‏.‏

وكان اليونان يولون من بني إسرائيل عليهم نائباً وكان لقب كل من يتولى على بني إسرائيل هرذوس وقيل‏:‏ هيرذوس‏.‏

واستمرت بنو إسرائيل كذلك حتى قتلوا زكريا بعد ولادة المسيح حسبما تقدم ذكره‏.‏

ثم لما ظهر المسيح ودعا الناس بما أمره الله به أراد هرذوس قتله وكان اسمه هرذوس الذي قصد قتل المسيح فيلاطوس‏.‏

فرفع الله عيسى بن مريم إليه وكان منه ومنهم ما تقدم ذكره وكانت ولادة المسيح لإحدى وعشرين سنة مضت من غلبة أغسطس على قلوبطرا‏.‏

وكانت مدة ملك أغسطس ثلاثاً وأربعين سنة منها قبل ملك مصر اثنتي عشرة سنه وبعد ملك مصر إحدى وثلاثين سنة فيكون عمر المسيح عند موت أغسطس عشر سنين تقريباً وجملة ما عاشه المسيح إلى أن رفعة الله ثلاثاً وثلاثين سنة وثلاثة أشهر فيكون رفعه بعد موت أغسطس بنحو ثلاث وعشرين سنة والذي ملك بعد أغسطس طبياريوس وملك طبياريوس اثنتين وعشرين سنة ثم ملك بعد طبياريوس غانيوس فيكون رفع المسيح في السنة الأولى من ملكه وملك أربع سنين ثم ملك بعده قلوذيوس أربع عشرة سنة ثم ملك بعده نارون ثلاث عشرة سنة ثم ملك بعده ملك آخر قيل اسمه أوسباسيانوس وقيل أسفشيثوس عشر سنين ثم وفي السنة الأولى من ملكه قصد بيت المقدس وأوقع باليهود وقتلهم وأسرهم عن آخرهم إلا من اختفى‏.‏

ونهب القدس وخربه وخرب بيت المقدس وأحرق الهيكل وأحرق كتبهم وخلا القدس من بني إسرائيل كأن لم يكن بالأمس‏.‏

ولم تعد لهم بعد ذلك رئاسة ولا حكم وكان ذلك بعد رفع المسيح بنحو أربعين سنة لأن بعد رفع المسيح مضى ثلاث سنين من ملك غانيوس وأربع عشرة من قلوذيوس وثلاث عشرة من ملك نارون وعشر من أوسباسيانوس وجملة ذلك أربعون سنة فيكون خراب بيت المقدس الخراب الثاني‏.‏

وتشتت اليهود التشتت الذي لم يعودوا بعده لأربعين سنة مضت من رفع المسيح ولثلاثمائة وست وسبعين سنة مضت من غلبة الإسكندر ولثمانمائة وإحدى عشرة سنة مضت لابتداء ملك بخت نصر فيكون لبث بيت المقدس على عمارته الأولى إلى حين خربه بخت نصر أربعمائة وثلاثاً وخمسين سنة ثم لبثت على التخريب سبعين سنة ثم عمر ولبث على عمارته الثانية إلى حين خربه طيطوس التخريب الثاني سبعمائة وإحدى وعشرين سنة‏.‏

ثم إني وجدت في كتاب اسمه العزيزي تصنيف الحسن بن أحمد المهلبي في المسالك والممالك أن بيت القدس بعد أن خربه طيطوس التخريب الثاني حسبما ذكر تراجع إلى العمارة قليلا قليلا واعتنى به بعض ملوك الروم وسماه إيليا ومعناه بيت الرب فعمرة ورمم شعثه واستمر عامراً - وهي عمارته الثالثة - حتى سارت هلانة أم قسطنطين إلى القدس في طلب خشبة المسيح التي تزعم النصارى أن المسيح صلب عليها ولما وصلت إلى القدس بنت كنيسة قيامة على القبر الذي تزعم النصارى أن عيس دفن به وخربت هيكل بيت المقدس إلى الأرض وأمرت أن يلقي في موضعه مقامات البلد وزبالته فصار موضع الصخرة مزبلة وبقي الحال على ذلك حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح القدس فدله بعضهم على موضع الهيكل فنظفه عمر من الزبائل وبنى به مسجداً وبقى ذلك المسجد إلى أن تولى الوليد بن عبد الملك الأموي فهدم ذلك المسجد وبنى على الأساس القديم المسجد الأقصى وقبة الصخرة‏.‏

وبنى هناك قباباً أيضاً سمى بعضها قبة الميزان وبعضها قبة المعراج وبعضها قبة السلسلة‏.‏

والأمر على ذلك إلى يومنا هذا‏.‏

كذا نقله العزيزي والعهدة عليه أقول‏:‏ وينبغي أن يخص كلام العزيزي خراب هيكل بيت المقدس بالعمارة التي كانت على الصخرة خاصة لأن ذكر صفات المسجد الأقصى جاء في حديث معراج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وخلاصة ما ذكر أن هيكل بيت المقدس عمره سليمان بن داود وبقي عامراً حتى خربه بخت نصر وهو التخريب الأول ثم عمره كورش وهي عمارته الثانية وبقي عامراً حتى خربه طيطوس التخريب الثاني ثم تراجع للعمارة قليلا قليلا وبقي عامراً حتى خربتة هلانة أم قسطنطين وهو التخريب الثالث ثم عمره عمر بن الخطاب وهو عمارته الرابعة ثم خرب ذلك وعمره الوليد بن عبد الملك وهي عمارته الخامسة وهو على ذلك إلى يومنا هذا‏.‏